[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] «... أكثر الرجال كمالاً في عصرنا...» هكذا كتب سارتر واصفاً «آرنستو تشي جيفارا» حينما ذاع نبأ تصفيته الصاعق في العالم، في مثل هذه الأيام قبل أربعين سنة.
كان "سارتر" قد التقى بـ«جيفارا» حينما زار «هافانا » برفقة صديقته الكاتبة «سيمون دوبوقوار»، للتعرف على الثورة الكوبية الوليدة التي كانت قد أنجزت انتصارها على نظام «باتيستا» العميل والفاسد في العام 1959م، ولاقت تجربتها حفاوة واهتمام وتعاطف التَّواقين للتغيير وبناء عالم جديد في العالم، الذي كان يشهد مخاضات وتحولات متعددة في أرجائه المختلفة، غداة هزيمة النازية والفاشية والعسكرية اليابانية في الحرب العالمية الثانية، وتضعضع الإمبراطوريتين الاستعماريتين العجوزين: بريطانيا وفرنسا، وصعود وتعاظم قوتي الولايات المتحدة الأميركية، والإتحاد السوفييتي.
وفيما عمَّت قارات العالم المُستَعمَر (وخاصة في آسيا وإفريقيا) حركات وثورات الشعوب في سبيل الاستقلال والتحرر الوطني والتقدم، شهدت بلدان الغرب تمردات وانتفاضات السود والنساء والمثقفين والشباب.
أما في أميركا اللاتينية، فقد نهضت القوى الجديدة لتستأنف النضال ضد الأنظمة الدكتاتورية المستقلة شكلياً، والتابعة فعلاً للدولة وللشركات الأميركية الشمالية. وكان أبناء وبنات القارة الأحرار يتحركون لتخليص شعوبهم المقهورة مما تعانيه من استعباد وتخلف وعوز وظلم.
من بين هؤلاء خرج «جيفارا»، الطبيب الأرجنتيني الشاب، المولود في 1928، والذي قاده تجواله في القارة اللاتينية للتعرف عن كثب على مآسيها المنتشرة، وقاده اطلاعه على الفكر الثوري لـ: معرفة ما الذي ينبغي عمله إزاء هذا الواقع البائس...
وفي «المكسيك» التقى جيفارا بـ«فيدل كاسترو» وشقيقه «راؤول»، الذي كان يُعدُ مع مجموعة من الثوريين الكوبيين، للزحف على كوبا، فانضم جيفارا للحملة الصغيرة كطبيب لها، ليتحول من ثمَّ إلى مستشار لكاسترو وقائد في الثورة تولت قواته تحرير العاصمة هافانا.
وخلال ست سنوات شارك جيفارا الثورة الكوبية جهودها لتخليص كوبا – ليس فقط من كونها مزرعة خلفية للولايات المتحدة، كما يقال عن عموم أميركا اللاتينية- بل من مرتعٍ رخيص لسوءات ومباذل الأميركيين الشماليين الذين لا تبعد «كوبا» عن بلادهم سوى ثمانين ميلاً.
وإذا لم تغره السلطات الكبيرة التي تولاها في كوبا، شأن الثوريين الذين يتحولون إلى موظفين بيروقراطيين بمجرد الظفر بالسلطة، فقد سار جيفارا أو «تشي» – كما يناديه الكوبيون بتحبب- وراء نداء الثورة العالمية، فلباه في العام 1965 متجاوزاً حدود الدول والقوميات، ليشارك في كفاح الشعب الإفريقي الكونغولي ضد مستعمريه وناهبيه، مطلقاً عبارته التي اشتهرت فيما بعد: «.. حيثما ثمة ظلم هنالك وطني...»
لكن مناخ إفريقيا الضاري لم يمكنه من الاستمرار وهو المصاب بـ«الربو»؛ وتضافرت عوامل أخرى ليعود من إفريقيا إلى قارته الأم... مُيمماً صوب «بوليفيا» هذه المرة. ومع تتبع الجيش البوليفي له واستنفار «السي. آي. إيه» لقواها – وهي التي كانت تلاحق خطواته - سقط جيفارا ومجموعته الصغيرة إثر اشتباك مُنهك..
لكن «الدم لا يصير ماءاً» كما يقال، فكيف إذا أُريق من أجل قضايا عادلة تتعلق بمصائر الأمم والشعوب وتطلعاتها وأشواقها؟؟
وهكذا تحول دم جيفارا وسيرته الكفاحية إلى رمز ملهم لملايين الملايين من الشباب والشابات الظامئين لغدٍ جديد..
أما كلماته البسيطة الصادرة من قلب وتجربة إنسان صادق يتبع مُثُلَه بإخلاص عالٍ ويمضي وراءها مهما كان الثمن، فقد صارت علامات مضيئة: «.. الطريق مظلم وطويل... إن لم تحترق أنت.. وإن لم احترق أنا.. فمن سينير الطريق؟؟».
غفا «جيفارا» في التاسع من تشرين الأول-أكتوبر عام 1967، وكما هو شأن الشخصيات الكبيرة المميزة التي ترتاد وتشق دروباً جديدة، توزَّع حوله وفيه الناس: بين مريدين أفرطوا في حبهم وتقديرهم له إلى درجة تقليده في كل شيء، وبين ناقدين لم يروا فيه سوى مثاليٍ رومانسي أخفق في قراءة الأوضاع في إفريقيا وبوليفيا، وأراد تعميم نموذج الثورة الكوبية الخاص والفريد على ظروف متباينة، خصوصاً وأنه هو نفسه كان قد انتقد القوى التي أرادت إتباع نموذج الثورة الروسية السوفييتية، أو نموذج الثورة الصينية، والسعي لتطبيقهما في بلدان أخرى ذات أحوال مغايرة.
لكن (بين هؤلاء وأولئك) يظل «تشي» علماً عالياً من أعلام النضال ضد الإمبريالية والطغيان والتخلف والتبعية والفساد...
والثورة الكوبية، مثلها مثل كل الثورات، كانت «ثورة في الثورة» -إذا ما استعرنا تعبير «ريجيس دوبريه»- فتحت سماء المُشْتَرك الإنساني العام، يتعيَّن دائماً معرفة السمات والظروف المميزة لكل أرض وتجربة.
وهذا القول لا يسري فقط على الأمم والبلدان المختلفة، بل يسري أيضاً على الأمة نفسها التي لا ينبغي لأجيالها الجديدة أن تنسخ تجارب أسلافها.. وإلا وقعت في خطر «الجمود الفكري» و«أسر النماذج الجاهزة» التي تفضي إلى الفشل..
ومن هذا المنظور أرى أنه ينبغي فهم مقولة «أرسطو»: «لا معرفة إلا بالكُلِّيَّات» بـ«ولا كُلِّيَّات إلا بالجزئيات».. فالتعميم خطر لا يقل عن خطر الغرق في التفاصيل دون امتلاك رؤية كُلِّية.. وهذه مسألة بالغة الأهمية، تدفع الأمم غالياً ثمن إغفالها أو الخطأ فيها.
اليوم، وبعد أربعين سنة على أسره وإعدامه، تحوَّل جيفارا إلى أسطورة فائقة.. تستثير لدى الأحرار )خصوصاً في أميركا اللاتينية) الهمم والمشاعر النبيلة المقاومة، بقدر ما تستثير لدى عالم الأعمال غرائز استثمارها تجارياً...
وخارج «الأسطورة»، يبقى ما هو حقيقي: النموذج الإنساني الأممي العابر للحدود الذي جسَّده جيفارا في تجربته الواقعية التاريخية، ويظل مثالاً مُفعماً بالحيوية، جديراً بالتقدير والاحترام، خصوصاً في عصر عولمة العالم وسعي الولايات المتحدة للهيمنة عليه وأمركته، بتفتيته إلى أعراق وطوائف وقبائل ومناطق...
وإذ نستحضر جيفارا، فإنما نستحضر معه التوكيد على معاني الكفاح الإنساني المشترك، ونرد تحية للذي تعاطف مع قضايانا وأحب بلادنا وزارها..
وبالطبع، لا ننسى التأكيد على ما لا يُمكن إستيراده كوصفةٍ جاهزة:
استكشاف واشتقاق سبُلنا الخاصة بالخلاص
وهاذي صور اخرى عن جيفارا
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]